كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذا المعنى هو المراد هنا إذا جعلت {مِنْ} صلة وهو المناسب لمقام التحدث بالنعم، وإن لم تجعل صلة فهي على أصلها فيما قيل.
وأنت تعلم أنه لا يتسنى ذلك إلا إذا أريد الكل المجموعي وهو كما ترى.
وفي البحر أن قوله تعالى: {عُلّمْنَا مَنطِقَ الطير} إشارة إلى النبوة.
وقوله سبحانه: {وَأُوتِينَا مِن كُلّ شيء} إشارة إلى الملك.
والجملتان كالشرح للميراث.
وعن مقاتل أنه أريد بما أوتيه النبوة والملك وتسخير الجن والإنس والشياطين والريح.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هو ما يهمه عليه السلام من أمر الدنيا والآخرة.
وقد يقال: إنه ما يحتاجه الملك من آلات الحرب وغيرها {إِنَّ هَذَا} إشارة إلى ما ذكر من التعليم والإيتاء {لَهُوَ الفضل} والإحسان من الله تعالى {المبين} الواضح الذي لا يخفى على أحد أو أن هذا الفضل الذي أوتيته لهو الفضل المبين.
فيكون من كلامه عليه السلام قطعًا ذيل به ما تقدم منه ليدل على أنه إنما قال ما قال على سبيل الشكر كما قال صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» بالراء المهملة آخره كما في الرواية المشهورة أي أقول هذا القول شكرًا لا فخرًا.
ويقرب من هذا المعنى ولا فخز بالزاي كما في الرواية الغير المشهورة.
{وَحُشِرَ لسليمان جُنُودُهُ} أي جمع له عساكره من الأماكن المختلفة {مّن الجن والأرض والطير} بيان للجنود كما في البحر وغيره.
ولا يلزم من ذلك أن يكون الجنود المحشورون له عليه السلام جميع الجن وجميع الإنس وجميع الطير إذ يأبى ذلك مع قطع النظر عن العقل قصة بلقيس الآتية بعد، وكذا قصة الهدهد.
ونقل عن بعضهم أنه عليه السلام كان يأتيه من كل صنف من الطير واحد وهو نص في أن المحشور ليس جميع الطير.
ولا يكاد يصح إرادة الجميع في الجميع على ما ذكره الإمام في الآية أيضًا وهو أن المعنى أنه جعل الله تعالى كل هذه الأصناف جنوده لأنه وإن لم يستدع الحضور والاجتماع في موضع واحد بل يكفي فيه مجرد الانقياد والدخول في حيطة تصرفه والاتباع له حيث كانوا لإباء قصة بلقيس أيضًا عنه فإن المناسب الإخبار بهذا الجعل بعد الإخبار بدخولها ومن معها في حيطة تصرفه.
والظاهر أن هذا الحشر ليس إلا جمع العساكر ليذهب بهم إلى محاربة من لم يدخل في ربقة طاعته عليه السلام.
وكونه ليذهب بهم إلى مكة شكرًا على ما وفق له من بناء بيت المقدس خلاف الظاهر.
لكن إذا صح فيه خبر قبل، وأن المجموع من الأنواع المذكورة ما يليق بشأنه وأبهته وعظمته سواء جعلت {مِنْ} بيانية أو تبعيضية.
وكونه عليه السلام أحد المؤمنين الذين ملكا المعمورة بأسرها إذا سلمنا صحة الخبر الدال عليه وسلامته من المعارض وأنه نص في المطلوب لا يستدعي سوى دخول سكان المعمورة في عداد رعيته وحيطة ملكته وليس ذلك دفعيًا بل هو إن صح كان بحسب التدريج.
وقد ذكر بعض المؤرخين أن بلقيس إنما دخلت تحت طاعته في السنة الخامسة والعشرين من ملكه، وكانت مدة ملكه عليه السلام أربعين سنة وكذا كانت مدة ملك أبيه داود عليهما السلام.
والظاهر أن الحاشر لكل نوع من الأنواع الثلاثة أشخاص منهم فيكون من كل نوع أشخاص مأمورون بذلك معدون له.
ولا تستعد ذلك في الطير إذا كنت من المؤمنين بقصة الهدهد، ولا يلزمك التزام ما قاله الإمام من أن الله تعالى جعل للطير عقلًا في أيام سليمان عليه السلام ولم يجعل لها ذلك في أيامنا فما عليك بأس إذا قلت بأنها على حالة واحدة اليوم وذلك اليوم.
ولا نعني بعقلها إلا ما تهتدي به لأغراضها، ووجود ذلك اليوم فيها وكذا في غيرها من سائر الحيوانات مما لا ينكره إلا مكابر، وما علينا أن نقول: إن عقولها من حيث هي كعقول الإنسان من حيث هي.
ولعل فيها من يهتدي إلى مالا يهتدي إليه الكثير من بني آدم كالنحل، ولعمري أنها لو كانت خالية من العقل كما يقال وفرض وجود العقل فيها لا أظن أنها تصنع بعد وجوده أحسن مما تصنع اليوم.
وهي خالية منه ولا يجب أن يكون كل عاقل مكلفًا فلتكن الطيور كسائر العقلاء الذين لم يبعث إليهم نبي يأمرهم وينهاهم، ويجوز أيضًا أن تكون عارفة بربها مؤمنة به جل وعلا من غير أن يبعث إليها نبي كمن ينشأ بشاهق جبل وحده ويكون مؤمنًا بربه سبحانه بل كونها مؤمنة بالله تعالى مسبحة له وكذا سائر الحيوانات مما تشهد له ظواهر الآيات والأخبار، وقد قدمنا بعضًا من ذلك وليس عندنا ما يجب له التأويل، وبالغ بعضهم فزعم أنها مكلفة وفيها وكذا في غيرها من الحيوانات أنبياء لهم شرائع خاصة واستدل عليه بما استدل والمشهور إكفار من زعم ذلك.
وقد نص على إكفاره جمع من الفقهاء، وتخصيص الأنواع الثلاثة بالذكر ظاهر في أنه عليه السلام لم يسخر له الوحش.
وفي خبر أخرجه الحاكم عن محمد بن كعب ما هو ظاهر في تسخيره له عليه السلام أيضًا، وسنذكره قريبًا إن شاء الله تعالى لكنه لا يعول عليه، وتقديم الجن للمسارعة إلى الإيذان بكمال قوة ملكه عليه السلام وعزة سلطانه من أول الأمر لما أن الجن طائفة عاتية وقبيلة طاغية ماردة بعيدة من الحشر والتسخير.
ولم يقدم الطير على الإنس مع أن تسخيرها أشق أيضًا وأدل على قوة الملك وعزة السلطان لئلا يفصل بين الجن والإنس المتقابلين والمشتركين في كثير من الأحكام.
وقيل في تقدم الجن: إن مقام التسخير لا يخلو من تحقير وهو مناسب لهم وليس بشيء لأن التسخير للأنبياء عليهم السلام شرف لأنه في الحقيقة لله عز وجل الذي سخر كل شيء.
وإذا اعتبر في نفسه فالتعليل بذلك غير مناسب للمقام ويكفي هذا في عدم قبوله {فَهُمْ يُوزَعُونَ} أي يحبس أولهم ليلحق آخرهم فيكونوا مجتمعين لا يتخلف منهم أحد وذلك للكثرة العظيمة، ويجوز أن يكون ذلك لترتيب الصفوف كما هو المعتاد في العساكر والأول أولى وفيه مع الدلالة على الكثرة والإشعار بكمال مسارعتهم إلى السير الدلالة على أنهم كانوا مسوسين غير مهملين لا يتأذى أحد بهم.
وأصل الوزع الكف والمنع، ومنه قول عثمان رضي الله تعالى عنه: ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن.
وقول الحسن لا لابد للقاضي من وزعة، وقول الشاعر:
ومن لم يزعه لبه وحياؤه ** فليس له من شيب فوديه وازع

وتخصيص حبس أوائلهم بالذكر دون سوق أواخرهم مع أن التلاحق يحصل بذلك أيضًا لأن في ذلك شفقة على الطائفتين، أما الأوائل فمن جهة أن يستريحوا في الجملة بالوقوف عن السيرد وأما الأواخر فمن جهة أن لا يجهدوا أنفسهم بسرعة السير، وقيل: إن ذلك لما أن أواخرهم غير قادرين على ما يقدر عليه أوائلهم من السير السريع، وأخرج الطبراني، والطستي في مسائله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه يحبس أولهم على آخرهم حتى تنام الطير والله تعالى أعلم بصحة الخبر.
والظاهر أن هذا الوزع إذا لم يكن سيرهم بتسيير الريح في الجو، والأخبار في قصته عليه السلام كثيرة.
فقد أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: كان يوضع لسليمان ثلاثمائة ألف كرسي فيجلس مؤمني الإنس مما يليه ومؤمني الجن من ورائهم ثم يأمر الطير فتظله ثم يأمر الريح فتحمله فيمرون على السنبلة فلا يحركونها، وأخرج الحاكم عن محمد بن كعب قال: بلغنا أن سليمان عليه السلام كان معسكره مائة فرسخ خمسة وعشرون للإنس وخمسة وعشرون للجن وخمس وعشرون للوحش وخمسة وعشرون للطير وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة منكوحة وسبعمائة سرية فيأمر الريح العاصف فترفعه ثم يأمر الرخاء فتسير به.
وأوحى الله عز وجل إليه وهو يسير بين السماء والأرض إني قد زدتك في ملكك أنه لا يتكلم أحد من الخلائق بشيء إلا جاءت به الريح إليك وألقته في سمعك.
ويروى أن الجن نسجت له عليه السلام بساطًا من ذهب وإبريسم فرسخًا في فرسخ ومنبره في وسطه من ذهب فيصعد عليه وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة فتقعد الأنبياء عليهم السلام على كراسي الذهب والعلماء على كراسي الفضة وحولهم الناس وحول الناس الجن والشياطين وتظله الطير بأجنحتها وترفع ريح الصبا البساط فتسير به مسيرة شهر.
وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن المنذر عن وهب بن منبه قال: مر سليمان عليه السلام وهو في ملكه وقد حملته الريح على رجل حراث من بني إسرائيل فلما رآه قال: سبحان الله لقد أوتي آل داود ملكًا فحملتها الريح فوضعتها في أذنه فقال: ائتوني بالرجل قال: ماذا قلت؟ فأخبره فقال سليمان: إني خشيت عليك الفتنة لثواب سبحان الله عند الله يوم القيامة أعظم مما رأيت آل داود أوتوا فقال الحراث: أذهب الله تعالى همك كما أذهبت همي.
وفي بعض الروايات أنه عليه السلام نزل ومشى إلى الحراث وقال: إنما مشيت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه ثم قال: لتسبيحة واحدة يقبلها الله تعالى خير مما أوتي آل داود، وأكثر الأخبار في هذا الشأن لا يعول عليها فعليك بالإيمان بما نطق به القرآن ودلت عليه الأخبار الصحيحة وإياك من الانتصار لما لا صحة له مما يذكره كثير من القصاص والمؤرخين مما فيه مبالغات شنيعة بمجرد أنها أمور ممكنة يصح تعلق قدرته عز وجل بها فتفتح بذلك باب السخرية بالدين والعياذ بالله تعالى، ولا يبعد أن يكون أكثر ما تضمن مثل ذلك من وضع الزنادقة يريدون به التنفير عن دين الإسلام.
{حتى إِذَا أَتَوْا على وَادِى النمل}.
حتى هي التي يبتدأ بها الكلام ومع ذلك هي غاية لما قبلها وهي ههنا غاية لما ينبىء عنه قوله تعالى: {فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل: 17] من السير كأنه قيل: فساروا حتى إذا أتوا الخ، ووادي النمل واد بأرض الشام كثير النمل على ما روي عن قتادة ومقاتل، وقال كعب: هو وادي السدير من أرض الطائف، وقيل: واد بأقصى اليمن وهو معروف عند العرب مذكور في أشعارها، وقيل: هو واد تسكنه الجن والنمل مراكبهم وهذا عندي مما لا يلتفت إليه.
وتعدية الفعل إليه بكلمة على مع أنه يتعدى بنفسه أو بإلى إما لأن إتيانهم كان من جانب عال فعدى بها للدلالة على ذلك كما قال المتنبي:
ولشد ما جاوزت قدرك صاعدا ** ولشد ما قربت عليك الأنجم

لما كان قرب الأنجم وإن أراد بها أبيات شعره من فوق، وإما لأن المراد بالإتيان عليه قطعه وبلوغ آخره من قولهم: أتى على الشيء إذا أنفده وبلغ آخره.
ثم الإتيان عليه بمعنى قطعه مجاز عن إرادة ذلك وإلا لم يكن للتحذير من الحطم الآتي وجه إذ لا معنى له بعد قطع الوادي الذي فيه النمل ومجاوزته، والظاهر على الوجهين أنهم أتوا عليه مشاة، ويحتمل أنهم كانوا يسيرون في الهواء فأرادوا أن ينزلوا هناك فأحست النملة بنزولهم فأنذرت النمل {قَالَتْ نَمْلَةٌ} جواب إذا.
والظاهر أنها صوتت بما فهم سليمان عليه السلام منه معنى {نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النمل ادخلوا مساكنكم لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سليمان وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} وهذا كما يفهم عليه السلام من أصوات الطير ما يفهم، ولا يقدح في ذلك أنه عليه السلام لم يعلم إلا منطق الطير إما لأنها كانت من الطير ذات جناحين كما أخرج ابن أبي حاتم عن الشعبي وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة، وكم رأينا نملة لها جناحان تطير بهما، وكون ذلك لا يقتضي عدها من الطير محل نظر وإما لأن فهم ما ذكر وقع له عليه السلام هذه المرة فقط ولم يطرد كفهم أصوات الطير، وليس في الآية السابقة ولا في الأخبار ما ينفي فهم ما يقصده غير الطير من الحيوانات بدون اطراد، وقال ابن بحر: إنها نطقت بذلك معجزة لسليمان عليه السلام كما نطق الضب والذراع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال مقاتل: وقد سمع عليه السلام قولها من ثلاثة أميال، ويلزم على هذا أنها أحست بنزولهم من هذه المسافة.
والسمع من سليمان منها غير بعيد لأن الريح كما جاء في الآثار توصل الصوت إليه أو لأن الله تعالى وهبه إذ ذاك قوة قدسية سمع بها إلا أن إحساس النملة من تلك المسافة بعيد، والمشهور عند العرب بالإحساس من بعيد القراد حتى ضربوا به المثل.